السبت، 4 أغسطس 2012

لا خير في عشق بلا موت.

=-=-=-=-=-
كانت " نُعمي " جارية تتمتع بحسن وبهاء ، ورثها شاب عربي من أجمل فتيان العرب من ضمن ماورث عن أبيه من أموال وضياع وجواري ، كان اسمه " ظريف بن نعيم " وكان يتمتع بوسامة كبيرة ويحيا الحياة في رغد وسعة ، ويخلو له الإنفاق علي ملذاته وشهواته وطعامه وشرابه ، يسرف في السهر والمنادمة ، يستمتع بغناء القيان وبالموسيقي والطرب ..
وبمرور الزمن بلغ سفه ظريف وإسرافه حداً كبيراً طوق به عنقه بالخسائر والديون ، رق حاله وباع جواريه إلا واحدة فقط أبقاها لنفسه ..
وكانت تلك هي " نُعمي" فرعاء ، هيفاء ، عاشقة مدلهة به ملكت عليه فؤاده وأمسكت عليه تلابيب نفسه ، فلم يجد بداً سوي التمسك بها وعدم التفريط فيها ، ولم يقنع بغيرها بعد أن هام بها حباً ووقع في غرامها وشغف بها أكبرالشغف ..
بادلت الجارية الجميلة " نُعمي " حبيبها حباً بحب وأخلصت له وعاشا معاً ينهلان من نبع الحب الصافي ، ورأي ظريف بن نعيم أن لا سبيل أمامه سوي اللوذ بأحضانها يرشف من رحيق جمالها وشذاها ، ومن أجل هذا الحب أعلن وبغير رجعة انتهاء علاقته بالسهر والمنادمة والغناء والطرب وراح يلازمها في أويقات الليل والنهار ، لا يري سواها حبيبة ولا تري سواه أو تقنع بغيره رجل ..
كانت " نُعمي " مطمعاً ومطمحاً لكل رجل عاشق للنساء نظراً لما تتمتع به من قوام ممشوق حسن مظهر وجمال مخبر ، فتنته بحبها كما خلبت عقله بجمالها ورقتها وعذب حديثها ومنطقها وحسن أدبها وحياءها حتي صارت مضرب المثل في خلقها وأصبحت حديث الناس في غدواتهم ورواحهم ..
ولكن ...
تروي لنا كتب التراث العربي أن واحداً من سراة العرب بلغ سمعه سيرة هذه الجارية الجميلة ، فاشتعل بها قلبه وود لو كان بإمكانه أن يمتلكها ، وكان يتمتع بعلاقات وطيدة مع الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق فسعي لشراء الجارية خاصة وأن الفتي الولهان الذي عشقها قد بات يعاني من سوء الحال وشظف العيش وضياع الأموال والأملاك ، وسنحت الفرصة للعاشق الولهان الجديد لأن يبعث إليه من يساومه إلا أن قلب الفتي لم يطاوعه وعاد رسول السري لصاحبه بخفي حنين وقد لقي رفضاً بإباء ، حيث قال له الفتي :
ـ أنا لا أبيعها بكل كنوز الدنيا ..
وبلغ الخبر الرجل الذي سعي لإستغلال نفوذه لدي الحجاج إلا أن ذلك لم يفت من عضد الفتي ولا لانت له قناة وعاد للرفض من جديد ..

وظل الفتي متعلقاً بحبيبته يترعان معاً من كؤوس الحب حتي رأي أحد الوشاة يدس له عند الحجاج الذي لم يلبث إلا أن أخذ الأمر علي عواهنه ودون أن يتروي أو يتحقق فأرسل بمن يبطش بالعاشق الولهان ويصادر ماله ويلقي به في غياهب السجن يلعق المرارة والوحشة ، بينما حمل جنود الحجاج الجارية " نُعمي "إلي مجلسه ، وما أن وقعت عينا الحجاج عليها حتي كاد عقله أن يشتط من هول ما رأي من حسن وجمال حتي كاد أن يسقط عنه صولجان الملك وذهب وقاره وحكمته فهو أمام جمال فاتن وحسن عتي ملك عليه أمره للحظات أفاق منها قليلاً ثم عاد ليلملم شتات ذهنه الذي تبعثر ، وأصدر أمره لجنوده فيما يشبه صيحة :
ـ اذهبوا بها إلي هناك ، إلي حيث الجواري ..
وازدرد الحجاج ريقه وشعر بشئ من التلعثم وراح يمسح عرقاً بارداً تفصد علي جبينه علي الرغم من برودة الجو ..
وراودت الحجاج نفسه في أن يحتفظ بها ، ولكنه خاف علي نفسه من وصول الخبر إلي مولاه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان في عاصمة ملكه بدمشق الشام ، فقام بإرسالها فوراً طمعاً في المزيد من رضاه ..
كل هذا والفتي المغبون يعاني ظلمة السجن محسوراً وقد جافاه النوم وسلبه الجنون عقله ، وأفقده الهوي أمره ، وحين علم الحجاج بأمر الفتي أرسل إليه من يفك أسره ويطلق سراحه ويعيد غليه ماله ..
وخرج العاشق المتيم من محبسه وسعي في الأرض يبحث عن حبيبته ويردد :
ـ أين انت يا نُعمي ؟ ..
دله الناس علي مكانها ، وشق طريقه نحجو عاصمة الأمويين فقطع الفيافي والفلوات حتي وصلها والليل يغشي كل الأرجاء ، وهو ينعي حظه ويبكي بمرارة ، حتي إذا جاء الصباح اقترب من قصر الخليفة ووقف علي بابه ينتظر أن يؤذن له بلقاء الخليفة ، ودخل بعد أن أذن له ، وكان بملابسه المهلهلة وشعره الأشعث المغبر وملامحه التي داهمتها رمال الصحاري وفعلت به أفعالها ، استمع الخليفة لشكايته في اهتمام ورأي أن قلب الفتي يعتلج ويكاد أن ينفطر ، وسمع صوت انتحابه وحزنه الشديد ومس هذا كله قلب الخليفة ، فربت علي كتفه وأمر له بطعام وثياب ثم قال له :
ـ هون عليك أيها الفتي ، لقد أوجعت قلبي وقد مست شكايتك شغافه ..
وأردف الخليفة وقد راح يطيب خاطر الفتي :
ـ ولكنك جئت بعد فوات الأوان ..
بهت الفتي وظن أن خطراً ما قد حاق بمحبوبته ، فقال للخليفة وقد اختنق صوته وتلجلج لسانه :
ـ سيدي أمير المؤمنين ، دعني أرها لمرة واحدة ، مرة واحدة فقط ، اسمع صوتها تغني ، ثم ..
واستطرد :
ـ ثم افعل بي ماتشاء ..
رق قلب الخليفة حينها ، وأرسل من يأتي بها بعد أن رأي تواضع مطلب الفتي ، وجاءت نُعمي ترفل في حلة بديعة احسن اختيارها ، وما أن وقعت عيناها علي فتاها ورأته علي تلك الحال من الذبول والنحول وقد أصاب الخبل عقله حتي أغمي عليها وسقطت في وهدة من وهاد العذاب وكانت تنتحب وتبكي وبدت كالغزالة الذبيحة ، وسمح لها الخليفة بمجالسة الفتي الذي كان قلبه يلهج ، وترتعد فرائصه ..
قال : غنّ لي يانُعمي ..
قالت وقد تحجرت الدموع في عينيها :
ماذا أغني ؟
قال : قول قيس بن ذُريح صاحب لبني :
لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا
ولكنما الدنيا متاع غرور
سأبكي علي نفسي بعين غزيرة
بكاء حزين في الوثاق أسير
وكنا جميعاً قبل أن يظهر النوي
بأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الوشون حتي بدت لنا
بطون الهوي مقلوبة بظهور.
وكان غناء الجارية وكأنه يجري في العروق مجري الدم ، كما جرت به الدموع في المآقي ، وكان الخليفة منصت في حزن حتي إذا ما انتهت نُعمي من الغناء حتي قال لها الفتي :
ـ غنّ قول جميل بن معمر صاحب بثينة :
فياليت شعري هل أبيتن ليلة
كليلتنا حتي نري ساطع الفجر؟
تجود علينا بالحديث وتارة
تجود علينا بالرضاب من الثغر
فليت إلهي قد قضي ذاك مرة
ويعلم ربي عند ذلك شكري؟
ولو سألت مني حياتي بذلتُها
وجُدت بها إن كان ذلك من أمري وما أن انتهت نُعمي من الغناء أغُمي علي الفتي ، وحين أفاق قال لها :
ـ غّن قول مجنون ليلي :
عرضت علي نفسي العزاء فقيل لي
من الآن فايأس لا أعزك من صبر
إذا بان من تهوي وأصبح نائياً
فلا شئ أجدي من حلولك في القبر..
وبعد أن انتهت الجارية من الغناء حتي ارتاعت نفس الفتي الذي غافل الجميع وألقي بنفسه من نافذة القصر وسقط ميتاً من ساعته وسط دهشة الجميع ، هنا قال الخليفة:
ـ رحمه الله ، رحمه الله ، لقد أخرجت له الجارية وبودي ألا أردها إليه ، والآن ..
أشار الخليفة لأحد غلمانه ، وأكمل :
ـ والآن ، اصحبها معك أيها الغلام وردها إلي ورثته وأهله أو تصدق بها عليه..
ومضت نُعمي مع الغلام يغذان الخطي وهي شبه مترنحة من الأسي وكاد ان يذهب الحزن بعقلها ، وبينما هما يسران بجوار حفرة عميقة بها ماء كثير أفلتت نُعمي يدها من يد الغلام وألقت بنفسها في الحفرة العميقة وكانت تردد :
من مات عشقاً فليمت هكذا
لا خير في عشق بلا موت.
وماتت الجارية العاشقة غرقاً

.

ليست هناك تعليقات: