الأربعاء، 18 أبريل 2012

منذ ثماني سنوات وهي لا تزال تبحث عن ابنتها المفقودة!


معتز محي عبد الحميد بهدوء يطلب منها ضابط الإصلاحية الاقتراب مني لتحدثني عن مأساتها القاسية منذ ولادتها في محلة الذهب إلى دخولها السجن أكثر من مرة ... وأخيرا اتهمت بالقتل ... وقبل أن تستطرد (س) في حديثها تدفقت دموعها وهي تواصل رواية رحلة الأحزان قائلة :

 لقد عشت طفولتي فقيرة أبيع الخمور مع أمي في محلة الذهب ... ورغم حاجة أمي لي فلم تمانع عندما تقدم إلي رجل يطلب الزواج مني ... كان يقيم في نفس المحلة ويتاجر بالممنوعات ...وذهبت معه إلى المسكن الذي يقيم فيه ... وبعد فترة اكتشفت أن حياتي مع أمي كانت أفضل مئات المرات مع هذا الزوج ... اكتشفت أن هذا الزوج مدمن على المسكرات لا يهمه شيء في الدنيا سوى الحصول على بطل العرق !... ولم يكن هناك سوى الصبر والاحتمال ... فقد كبرت بطني بثمرة الزواج ... وأنجبت طفلة أسميتها (ن) ... كانت جميلة ... بيضاء وشعرها اصفر !... بعد فترة أدركت انه لا سبيل لإصلاح زوجي ... فتوليت العمل ... أحمل الطفلة في الصباح وأذهب بها إلى مراقد الأئمة والصالحين لأتسول من الناس ... ويمضي النهار ونرجع بعدها للبيت ! وبعد سنة وبسبب مشاجرة مع المتسولين اتهمت بالسرقة من أحد المحال وفشلت في إثبات براءتي ... ودخلت السجن لأقضي فيه قرابة السنة ... خرجت من السجن فوجدت مفاجأة في بيتي ... اكتشفت أن زوجي قد تزوج بأخرى وخصص لها غرفة بداخل مسكننا ... انتظمت في عملي مرة أخرى ... لا يعكر صفو حياتي سوى المشاجرات المستمرة بيننا نحن الثلاثة ... كان زوجي لا يحسن معاملتها ويضربها يوميا رغم شخصيتها القوية ... حتى جاء يوم ذهبت به إلى السوق لأشتري حاجيات لي ولابنتي ... وعندما عدت صعدت درجات السلّم ليقابلني طفل ضرتي من زوجها السابق ... فوجئت به يخبرني بأن أمه قتلت (عمه) ولم يكن عمه الذي يقصده سوى زوجي !... لم أعر الأمر اهتماما حتى دخلت غرفتي ... بعد دقائق نزلت أسفل السرير لأحضر بعض الأواني ... ولكني تسمرت في مكاني ... فقد كان المشهد مخيفا ... وجدت زوجي جثة هامدة بلا حراك ... كان لونه ازرق وظهرت بعض السوائل من فمه وجحظت عيناه ... أسرعت إلى حجرة ضرتي ... وجدت قسمات وجهها جامدة ... وبادرتني على الفور وكأنها قرأت أفكاري ... سوف أقتلك مثل ما قتلته إذا تحدثت مع احد ... ليبق الأمر سرا ... ونخبر الناس أن وفاته جاءت طبيعية ... وإلا سوف أصرخ وأعلن للناس أنت التي قتلته !... لم أجد سوى الرضوخ لتهديدها ... فلقد كانت الجثة أسفل سريري بعد أن قامت ضرتي بجره إلى حجرتي حتى تضغط علي وتجبرني على الصمت !.. ولكن لم تمض الأمور كما أرادت ... حاولنا إقناع الجيران بالوفاة المفاجئة !.. وبدأنا بإعداد مراسيم الدفن ... ولكن الطفل الذي شاهد ما فعلته أمه بزوجها ... صار يحدث كل من يقابله ... وتحولت الهمسات إلى شكوك وانتقلت إلى مركز شرطة الجعيفر الذين أسرعوا بالحضور وتحفظوا على الجثة التي كنت في طريقي إلى دفنها في مقابر الشيخ معروف ... ألقوا القبض علينا ... وكان أول شيء فعلته ضرتي ... هو قولها للمحقق بأنني أنا القاتلة .. واتهمتني بأنني خططت كل شيء لقتل زوجها ومن اجل الانتقام منه لأنه تزوج بغيري !... أنكرت ذلك وأوضحت للمحقق أنها هي القاتلة بدافع الانتقام منه ... لأنه خدعها .. استولى على نقودها لينفقها على شرب العرق ... حتى أفلست بسببه خلال شهور قليلة ... ولم تمض هذه الشهور حتى جاءت المفاجأة الأخرى التي وقعت عليها كالصاعقة وهي انه متزوج من أخرى !... وتصمت (س) لترتشف قليلا من الماء وتتنهد قائلة : ولكن الحمد لله ... لقد ظهرت براءتي من القتل عندما استمعوا للطفل ... الذي قص عليهم ما فعلته أمه بزوجها وشرح للمحكمة كيف قامت بسحبه إلى غرفتي ... وعندئذ لم تجد القاتلة سوى الاعتراف ،فحكم عليها بالسجن خمسة عشر عاما ، بينما وجهوا إلي تهمة التستر على الجريمة وحكموا علي بالسجن 8 سنوات ! ..مع نطق القاضي بالحكم ... بدأت إجراءات ترحيلي إلى سجن النساء ،كانت نظرات ابنتي (ن) التي أتمت عامها السابع تقتلني ... كنت أشعر وكأني لم أرها مرة ثانية ... رغم تأكيدات أمي العجوز وهي تنتزعها مني بان (ن) ستبقى في عينها ... كنت أشاهد ابنتي في أثناء الزيارة تأتي مع أمي رغم عناء الرحلة الطويلة ما بين البيت وسجن النساء ... كانت عندما تحضر أنسى أني داخل السجن ... أتحول إلى إنسانة أخرى ... في آخر زيارة لأمي جلست وقد عجزت عن الكلام بسبب سوء حالتها الصحية ... أحسست بان زيارتها لن تتكرر ... كان شيء ما يراودني وإنا امسك بيدها لأودعها ... وبالفعل ذهبت أمي ولم تعد ثانية ... ومضت الأيام والأسابيع ولا يوجد أي خبر عنها ... كدت أجن ... أريد رؤية ابنتي ... طلبت من إدارة السجن مساعدتي ... ولكن دون جدوى وبمرور الوقت ساءت الأحوال داخل السجن فالمرء لا يستطيع أن يعتمد على ما يقدم له من طعام وشراب ... والحياة داخل السجن لا تقل شراسة عن حياة الحرية فكل شيء له ثمن ... ولم يمض وقت قصير حتى أصبحت خادمة لإحدى القوادات ... كنت أقوم بغسل ملابسها وإعداد الطعام لها مقابل الانتفاع بالطعام الجيد الذي يحضره أقاربها وبناتها في الزيارات ... وسرعان ما تبدل الحال ... أصبحت أتمتع بأشياء كثيرة كنت محرومة منها ... ورغم ذلك لم اشعر بأي متعة حقيقية وأنا محرومة من ابنتي ... إلا أن يطلق سراحي من السجن نظرا لحسن سيرتي وسلوكي خلال المدة التي قضيتها فيه ... ونسيت نفسي وتركت بوابة السجن واستقللت سيارة أجرة إلى منطقتي التي كنت أقيم فيها ... كنت لا أرى الطريق الذي أسير عليه ،كنت فقط أرى فستان ابنتي التي شاهدتها ترتديه آخر مرة وأتذكر ظفائرها الجميلة ! اقتربت من المنطقة التي تغيرت اغلب معالمها .... أزيلت أبنية وظهرت أبنية جديدة ... اقتربت وصرت أتطلع إلى وجوه الباعة ... ولكن اختفت الوجوه الأليفة كلها تقريبا ... صديقاتي تزوجن ومنهن من اختطفها الموت ... أسرعت إلى المسكن ... طرقت باب غرفتي ... لكني رأيت سيدة غريبة ... لم أرها من قبل ... وقبل أن أتكلم بادرتني متسائلة: من أنت ! أجبتها : بل من أنت ؟ ومن الذي جاء بك إلى غرفتي ... ونظرت إلي في دهشة وكأني امرأة مجنونة واستدركت الأمر بسرعة ... عرفتها بنفسي فأخبرتني أنها مستأجرة الغرفة منذ سنوات من صاحب المنزل ! وفوجئت بصاحب الدار يؤكد ما قالته لي السيدة وعندما سألته عن أمي قال إنها ماتت ، واضطروا إلى دفنها في مقابر الشيخ معروف على حساب صاحب المقبرة لأنهم لم يجدوا لها أقارب .. سألته عن ابنتي .. أنكر انه رآها ... خرجت من عنده إلى الجيران .. كالمجنونة .. ولكن لم أجد إجابة عن مصير ابنتي ... ظللت لأيام ابحث عنها في كل شارع أو منطقة تصلها قدماي ... كنت أنادي عليها أحيانا حتى اعتقد الكثيرون إني مجنونة ... ومضت الأيام دون أن أعرف مصير ابنتي ! طول النهار أبحث عنها ... وفي الليل أنام  في الشارع لعلها تكون موجودة فتراني ... شعرت بالجوع والحرمان مرة ثانية ... قبضت عليّ شرطة النجدة أكثر من مرة وأنا أتسول أو أبيت في الشارع ثم يفرجون عني عندما علموا بوضعي وساعدوني ... وأخذني تفكيري إلى الإقدام على عمل يجعل الجميع يعرف مكانها ،دخلت محلا لبيع الأجهزة الكهربائية في العلاوي .. أخرجت جهاز تلفزيون منه ووضعته فوق كتفي ومشيت متحدية صاحب المحل الذي اتصل بالشرطة بعد إلقاء القبض علي .. أخبرتهم بأني حرامية ولصة محترفة ولكن أرجوكم ابحثوا لي عن ابنتي المفقودة ... أحالوني إلى المحكمة مرة ثانية ... رويت للقاضي مأساتي التي أكدها له الشرطي الذي ألقى القبض عليّ ... قدر القاضي ظروفي وأمر بالإفراج عني بكفالة !... ولكن من يكفلني بخمسة ملايين دينار وأنا لا أملك سوى ابنتي .. لقد جعلت من نفسي مجرمة لكي أصل إليها ... فهل يتحقق حلمي ... إنها حياتي ... وكل شيء لي في هذه الدنيا ... ليت كلماتي تصل إليها أو إلى من يعرف عنها شيئا ليداوي قلب أم جريح !

ليست هناك تعليقات: