كانت مستاءة جداً وهي توجه لي أسئلة أتعبتها كما تقول، قالت لي، قرأت لك كتابات كثيرة عن المجاهدين، لكن أين هم، لماذا لم يثأروا لي، ولماذا تركوني فريسة سهلة لكلاب الاحتلال، ولأوغاد الهالكي، لعنه الله؟!
لماذا وجدت نفسي وحيدة بلا مناصر، أما من مسلم يثأر لي، كيف يقول التاريخ أن مسلمة حرة نادت من أقصى الأرض (وامعتصماه)، فسُيرت إليها الجيوش ولبت نداءها السيوف، عابرة صحارى وأنهار وجبال وسهول، لنصرتها ونجدتها وتحريرها من القيود، وأنا الحرة حولي أبناء ديني وأبناء جلدتي ولا أجد من يثأر لي ولشرفي المهدور.. لماذا هذا الصمت المطبق من أبناء بلدي وأنا عرضهم وشرفهم المنتهك المغتصب على يد حثالات صعاليك العصر من المستعمرين وكلابه!؟.
أخرستني كلماتها، وألجمتني آهاتها، فماذا أقول لها، أأرد عليها بالقول أن المعتصم قد مات، أم أبشرها بأن أرضنا ولادّة وأنها تنجب في كل يوم ألف معتصم جديد..؟! هل أقول لها أن أبناء شعبك مغلوب على أمرهم، ومسلوبة إرادتهم، وعاجزين عن القول قبل الفعل، أم أبشرها بأن هناك من لا ينام ويعمل ليل نهار لأخذ الثأر من كلاب الصلبان والمجوس!؟
بعد كل هذا وذاك لم أستطع القول شيئاً لأن كل الكلام، بل كلام الأرض جميعه لن يجعل هذه الحرة تغفر لنا صمتنا وتخاذلنا عن نصرتها يوم ديس عليها، واُعتقلت، وأهينت، وهتك شرفها، وكشف عن سترها، فما كان مني سوى الصمت والاكتفاء بنقل معاناتها لأمة الإسلام وحديثها المرّ، بطعم العلقم، عن أعراضنا المنتهكة، وديننا المغتصب وكرامتنا المهدورة، وشرفنا المسلوب!
تقول المسلمة العراقية التي حلت بها مصيبة الأسر في زنازين الطغاة، والخطف على أيدي زبانية الهالكي البغاة، ليس من السهل أن تجد نفسك فجأة بين القضبان، متعرٍ إلا من الأيمان، وسط وحوش كاسرة، يتقرب منك ألد أعداء الله، وأخس أنواع البشر، وأرذل القوم لينهشوا من جسدك الذي لم يمسسه قبل ذاك إنس ولا جان! وحينما تخرج تكتشف أنه لن يكون هناك أباً يستقبلك بحنانه، ولا أماً تضمك إلى صدرها، ولا زوجاً يغمرك بعطفه، ولا أخاً عليه تتكئ أو به تستعين، بعدما فارقوا الحياة غدراً ونحراً على يد سجانيك وجلاديك، ولا تجد هناك من يتجرأ على التقرب منك خوفاً منك، أو عليك، لا فرق، حتى تصبح الدنيا في ناظريك كجيفة نتنة، لولا مخافة الله لغادرناها منتحرات! فأي عارٍ ذلك الذي نحن فيه والذي يلفكم أبناء أمتي وقد أهينت كرامتنا، وانتهكت أعراضنا، وقتّلت أمهاتنا، وأريقت دماء آبائنا وأزواجنا وإخوتنا، كل هذا وأبناء أمتي من حولنا يغطون في سبات عميق، ويحجبون عين الشمس بكثرتهم، والتي لم تغن عنا شيئاً، ولم تمنع المحتل وكلابه الخونة الأنجاس من تدنيس براءتنا وأنوثتنا.. أعراضكم في بلاد الرافدين تنتهك يا بني الإسلام، فما أنتم فاعلون!؟.
ما بالكم تصمّون آذانكم عن نجدتنا وقد بلغ السيل الزبى، وتجاوزت السكين اللحم والعظم، حتى أصبحنا خرقاً بالية، لا قيمة لنا، ونحن الذين فضلنا الله على بقية خلقه تفضيلاً، بآدميتنا وبما نحمله من أيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم!.
ما بالكم تشيحون بوجوهكم عنا، وكأننا عاهرات لقيطات، ويحكم! إننا حرائر بلاد الرافدين، قبل أن تدنس عفتنا يد محتل غادر، ومجوسي صفوي حاقد.. كلوا وأشربوا أبناء جلدتنا فستدفعون ثمن صمتكم وسكوتكم هذا، ونساؤكم وبناتكم وأمهاتكم هن الهدف القادم، وما نحن إلا البداية لو كنتم تفقهون!!
أتريدون سماع قصتي، حسناً، سأرويها لكم بعض تفاصيلها، وعند الخاتمة سأترك الحكم لكم، لتعرفوا بأنفسكم من عدوكم، ومن أنتم، وما يعني صمتكم، ومن نحن اليوم، بعد أن كنا بالأمس لا يجرؤ الطير أن يمر من سماء عفتنا وشرفنا، عند خاتمة قصتي ستعرف أبن أمتي أن كان موقعك اليوم رقماً صعباً في معادلة الحياة، أم أنك لست سوى صفراً على الشمال!
ذات يوم، وتحديداً في الثامن عشر من تموز من العام 2006م، وكعادتها قامت والدتي بإيقاظي لأداء صلاة الفجر، وكنا نصلي تباعاً، أمي أولاً، فأعقبها أنا، ثم بقية العائلة، كنت أقيم مع والدتي منذ فترة طويلة، وبشكل متقطع نتيجة ظروف الحمل التي كنت أمر بها، ولانشغالات زوجي وأعماله التي أجهل كثير منها، وكذلك لخلو دار أهلي من الرجال، حيث لم يكن في الدار سوى النساء والأطفال، فأبي الذي يعمل صحفياً كان في سفر خارج العراق، هارباً من عمليات القتل التي تطال الصحفيين والإعلاميين على يد قوى الاحتلال وأيدي الحكومة التي نصبها المحتل لتأتمر بأمره، وأخواي هاجروا ملتحقين بأخي الأكبر الذي يقيم في بلاد الغربة منذ سنين طوال ويعمل طبيباً هناك..
بقينا أنا ووالدتي مستيقظات بعكس بقية أخواتي اللواتي سارعن للعودة إلى فراشهن..
وما هي سوى لحظات حتى أقتحم الأميركان دارنا، دخلوا علينا دخولاً مرعباً، بعدما حطموا الأبواب بقنابلهم الصوتية، وصرخاتهم وأصواتهم العالية، فأرعبنا صراخهم أكثر من قنابلهم الصوتية..
جاءونا والشر يتطاير من عيونهم، طريقة دخولهم لبيتنا توحي وكأنهم اقتحموا مقر لثكنة عسكرية، أو وكر لمجموعة مسلحة، دخلوا بقوة الحديد والنار، وكأنهم في ساحة حرب، بل وكأننا استقبلناهم بالرصاص مع أن البيت لم يكن يحوي سوى النساء!
كانت أعينهم تفيض حقداً وكرهاً ترجمته أفعالهم إلى واقع حي حينما عاملونا بشكل قذر أوحى بأننا حيوانات لا راع لنا، في الوقت الذي كانوا هم الرعاع!.
قال أحدهم، بلغة انكليزية ولكنة أميركية، جئنا من أجل (أمنية السامرائي)! من حسن حظي أنني كنت أجيد اللغة الإنكليزية
بحكم عملي كمهندسة وبحكم دراستي، فرددت عليهم لا يوجد هنا من تدعى بهذا الاسم.. لقد أنكرت أسمي ووجودي لأنهم أرعبوني بعدما طلبوني بالاسم.. قال لي جندي محتل، أذكري لي أسماء الموجودين هنا.. رددت عليه لا يوجد هنا سوى النساء.. أجاب بعنف شديد: لقد جئنا من أجل النساء، فأجبته بسرعة، لا يوجد سوى أمي وأخواتي والأطفال.. وذكرت له أسماء أخواتي، ثم أستطرد، وأنتِ ما اسمك: وبلا تردد، ودون شعور مني، قفز أسم (يقين) إلى ذهني، فقلت له أنا (يقين).. صمتوا لبرهة وأخذوا يتبادلون النظرات، وكأنهم كانوا يتحدثون من خلال نظراتهم تلك.. كانت نظراتهم بشعة، رأيت فيها صورة الجرم والحقد الأسود، وقبل أن يتحرك أحد منهم فهمت لغة عيونهم التي لم تكن بحاجة لخبير ليتعرف إلى حركتهم التالية، إذ توقعت، فما هي سوى لحظات حتى تقافزوا عليّ وأمسكوني وطرحوني أرضاً وانهالوا عليّ بالضرب المبرّح، وأخذوا يشدوني من شعري باتجاه الخارج!
علا صراخ أخواتي، وجنّ جنون أمي التي حاولت الوصول إليّ، لكن وقبل أن تصلني يديها ضربها جندي محتل بأخمص بندقيته على يديها، فمنعها من احتضاني حينما أرادت أن تفعل ذلك، وعندما حاولت منعهم من أخذي، إذ وقفت في طريق خروجهم من الدار، وهي تبكي، تعرضت ثانية إلى ضرب شديد من قبلهم، حتى كسروا لها جميع عظامها، أو هكذا كنت أظن!
كانت طريقة تعاملهم تنذر بالموت، فقد كانوا وحوشاً كاسرة، وتعاملوا معي بكل حيوانية، حتى بدى للناظر وكأن فريستهم من تقود الجهاد والمقاومة في بلاد الرافدين!
وقبل أن تتحرك الهمر التي ألقوني فيها كالشاة التي يجرونها إلى المذبح، وقبل أن ينطلق رتلهم الذي كان يضم عشرات الآليات بأنواعها المختلفة التي جاءوا بها ليعتقلوني، وقبل أن يغادر آخر جندي أرض داري، وبعد أن وضعوا نظارات سوداء على عيوني، كان صوت أمي يعلو أكثر وأكثر، بكاءاً ونحيباً مؤلماً، آلمني أكثر من ذلك الألم الذي كنت يسري في جسدي، وفجأة ارتفع صوت الرصاص وإطلاقات نارية أثناء انسحابهم من الدار، لتنتهي المداهمة بالرصاص والحديد، مثلما بدأت بالقنابل والنار!
وهم يغادرون دارنا التي أخذوني أنا فقط منها، نظراً لغياب زوجي وأبي وإخوتي، الذين كان لكل واحد مهم شأن يغنيه، صرخت فيهم: ماذا فعلتم بأمي وبأخواتي، فجاءني الرد بضربة على رأسي كادت تهشمه، حتى كدت أفقد الوعي من شدة الألم!
سارت بي الهمر مسافة، رغم أنني مهندسة وضليعة بأمور القياس، إلا أنني ولأول مرة أجد نفسي عاجزة حتى عن احتسابها، وحتى الدقائق أختل توازنها في حساباتي ولم أعد ادري كم مرّ من الوقت ونحن نسير في الطريق، فما حدث معي، ولي، لا يصدقه عقل، ولا يخطر على بال!
توقفت الهمر فجأة وأنزلوني بنفس الطريقة التي أصعدوني بها إليها، إهانة وضرب وشتم، ثم أدخلوني إلى مكان عرفت، بعد أن رفعوا الغطاء عن عيني، أنه حاوية حديدية مخصصة لنقل البضائع والسلع، ورغم أن الجو كان صباحاً ولم تشرق الشمس بعد، لكنني كنت أشعر بحرارة هذه الحاوية التي كانت كالفرن الساخن، ألقوني فيها ثم أغلقوا الباب وغادروا!
لكنهم سرعان ما عادوا ليقتادوني إلى غرفة صغيرة، ليجلسوني على كرسي، ويعيدوا يداي إلى الخلف، واضعين فيهن الأصفاد.. وخلفي كان يتوقف جندي أسود، وعند الباب مجندة شقراء، والمحقق يجلس أمامي خلف طاولة خشبية، وأمامه حزمة من الأوراق، وأقلام بألوان مختلفة، وكأنه ينوي رسم لوحة، وليس إجراء تحقيق مع امرأة على ما يبدو ستكون هي موضوع لوحته المرتقبة!
أخذ يسألني عن اسمي، واسم والدي، وكنيتي، ومهنتي، وأسم زوجي، ومعلومات عن تأريخ زواجي، وعملي، وسبب وجودي في دار أهلي مع أنني متزوجة، وغيرها الكثير من الأسئلة التي كنت أجيب عليها بمعلومات وهمية وزائفة أحياناً، وحقيقية في بعض الأحيان، وما دفعني لإخفاء بعض المعلومات، وذكر أسماء وهمية، هو أنهم لم يطلبوا هوية مني، ولم يأخذوا أوراقي الثبوتية التي كانت جميعها في بيت زوجي باستثناء هوية الأحوال المدينة التي فقدتها قبل أيام، ولم اُخرج البدل الضائع لها بعد!
سألوني عن زوجي كثيراً، فأكدت لهم أنه في سفر خارج العراق، وتحديداً في سوريا، فطلبوا الكثير من المعلومات عنه، لكنني لم أجبهم، لسبب بسيط، وهو أنني بالفعل لم أكن أعرف عن عمله شيئاً، سوى الشيء البسيط، فقد كان يُكثر من الخروج من الدار ويكثر المبيت خارجه، حتى أنني كنت ألجأ إلى دار أهلي للإقامة لشدة وكثرة غيابه، حتى سفره الأخير خارج العراق، كما كان يقول لي، بدا لي غريباً، فقد أطال الغياب وهو الذي وعد بالعودة سريعاً، والغريب في أمر زوجي أنه كان يرفض الاتصال بي حتى عبر الهاتف ليطمئنني على حاله ونفسه، حتى عرفت من الأميركان أنه لم يكن في سفر، بل أنه متواجد داخل العراق ويتزعم مجموعة جهادية ويحارب الأميركان، وأنه كان يوهمني بأنه في سفر ليغطي على جهاده الذي لم أكن اعرف به، وأنا زوجته، أعز الناس وأقربهم إلى قلبه، مع أنني لو كنت أعرف لشددت على يديه ولباركت له جهاده ذاك!
لقد أثار عدم إعطائي أي معلومات للأميركان عن زوجي غضبهم، فحنقوا عليّ أكثر، وعاملوني بوحشية، وبطريقة أكثر إذلالاً..
حينها كنت أضع سلسلة ذهبية في رقبتي تحمل خارطة لبلدي، كانت هدية من والدتي، ومحبسين ذهبيين في أصابعي هما ذكرياتي من زواجي، فجاء أحد الجنود وخلعهما من يدي ومن عنقي بقوة، ثم أمر المحقق الجنود أن يلبسوني ملابس خاصة، فأدخلوني إلى إحدى الغرف وخلعوا عني ملابسي بالقوة..
حينما استعيد ذكرى تلك اللحظة أشعر بالألم والمرارة والذل وهوان أمتي، فقد وجدت نفسي أتعرى أمام أغراب لا يحل لهم النظر إليّ حتى، فكيف بي وأنا عارية تماماً، تمنيت حينها لو أن الأرض انشقت لتبتلعني فأكون نسياً منسياً، فماذا سأقول لزوجي، وماذا أقول لأبي، ولأخوتي، ولأمي ولأخواتي.. ماذا أقول لربي الذي هو أعلم بحالي مني، ولكن تلك قوة فاقت قوتي وقدرتي، فقد حاولت منعهم ورفضت التعري، وطلبت منهم أخيراً مغادرة الجنود وبقاء المجندات، لكنهم أبوا إلا أن يشعروني بالذل والإمتهان، فمزقوا عني ثيابي حينما رفضت خلعها، ثم أخذوا يتفحصون جسدي وراحوا يوثقون في دفاترهم علاماتي الفارقة، حتى تلك الشامة الموجودة على يدي..
حينها خاطبتهم باللغة الإنكليزية وقلت لهم ألا تخجلون من فعلكم هذا، أنا امرأة، لماذا تفعلون هذا بي، وكان هناك مترجماً عراقياً كان يقف معهم مرتدياً بزة عسكرية أميركية تختلف عن الآخرين، ليتم تميزه عن بقية جنود الاحتلال على ما يبدو كونه مترجماً، كانوا ينادونه بـ(كرار)، وجهت كلامي إلى (كرار) وقلت له، وأنت أيها العراقي ألا غيرة لديك، اولست ابنة دينك ووطنك وبلدك، لماذا تسمح لهم أن يفعلوا بي كل ذلك أمام ناظريك، ثم أخذت أسب وأشتم بالمحتلين وبأميركا وبرئيسهم المجرم بوش، ولكن باللغة العربية، فأخذت (الحمية) المترجم العراقي (كرار)، ليس لنصرتي، بل لنقل كل حرف، وكل كلمة نطقت بها إلى أسماع أسياده الأميركان، فأشعرني بأنه كان أكثر يهودية من اليهود أنفسهم، بل كان يهودياً باقتدار، حتى أنني وحينما كررت السؤال عليه، هل أنت عراقي، فرد علي بلهجة قاسية، لست عراقياً، بل أنا أميركي اليوم!
بعد ذلك الموقف الشائن الذي وضعوني فيه ألبسوني بزة برتقالية اللون ثم أدخلوني إلى غرفة أصغر من تلك التي كانوا يحققون فيها معي، حيث تم التقاط صوراً لي، بعضها أمامي وبعضها جانبي، ثم أخذوا بصمات جميع أصابعي، قبل أن يختموا تلك الإجراءات بتصوير قرنية عيني!!
بعد ذلك نادى أحد الجنود الأميركان عبر جهاز اللاسلكي فجاءتني مجندة ذو بشرة حنطية لا تبدو عليها ملامح غربية، فطلب منها أخذي إلى زنزانة غير تلك التي كنت موجودة فيها حينما أتوا بي أول الأمر.. كانت تلك المجندة نحيلة لدرجة مقيتة، ولم تكن تحمل من سمات الأنوثة إلا ضفيرة قصيرة تنسدل خلف رأسها، وسرعان ما صرخت بي، أنت (أمنية السامرائي) إذن، فوجئت بلهجتها العراقية، فقد ظننت أنها أميركية بدلالة بزتها العسكرية التي كانت ترتديها، فقلت لها أنت عراقية! فردت عليّ بغضب ألا ترين، أنا أميركية، أنظري إلى هذا العلم، وكانت تشير إلى أسفل كتفها حيث يوجد العلم الأميركي، ثم قالت أنه شرفي أيتها الإرهابية.. ثم أردفت قائلة: أنت وأمثالك من الإرهابيات اللواتي ينتمين إلى تنظيم القاعدة ستتمنون الموت ولن تنالوه حتى نقرر نحن متى يكون!
وهنا قلت لها هنيئاً لليهود بك، ثم أخذت تشتم بي بعد سماعها كلماتي وتقول لي أنا (تميمية) وتاج على رأسك وعلى رأس جميع السُنة الإرهابيين! كان ذلك يحدث على مرأى ومسمع من الجنود الأميركان الذين أكتفوا بالتفرج والضحك على كلماتنا التي لم يفهموا منها سوى ما نقله لهم مترجمهم (كرار)، ثم أعادت وضع الكلبجات في يدي وشدتني بقوة وهي تأخذني إلى الزنزانة..
في ذلك الوقت لا أعرف لماذا تخلصت من كل الخوف، وأخذت أسب وأشتم فيهم وأحادثهم بتلك النبرة القوية، ربما لأنه صدمني وهالني منظر من كانوا يحسبون على العراق وهم يجعلون من أنفسهم أدوات للقذارة ومطايا للمحتل الغازي.. ثم انتبهت إلى أمر كاد أن يفوتني وهو اتهامي بالانتماء إلى تنظيم القاعدة، فقد وجهت لي هذه المجندة هذا الاتهام رغم أن المحقق لم يتطرق إليه إطلاقاً!
وهي تقودني إلى زنزانتي الجديدة، بعد تلك المشادة الكلامية معها، همست في أذني تلك المجندةالأميركية، (التميمية) كما تدعي، مخاطبة أياي بالقول: سأجعل الأميركان يغتصبونك واحداً واحداً! أرعبني كلامها أول الأمر، لكني تحليت بالقليل من الشجاعة المصطنعة وقلت لها: لي رب يحميني منك ومنهم، فأخذت تضحك بقهقهات عالية!
ثم أدخلتني إلى زنزانة تحوي أثنين من النساء العراقيات المعتقلات فأدهشني وأرعبني، مثلما أسعدني في ذات الوقت وجودهن!
كانت السيدتين من مدينة الفلوجة بمحافظة الأنبار، وكان حالهن يدمي القلب، فقد بدت عليهن مظاهر الانكسار والذل أكثر مني، بل كان في وجوههن رغبة الموت، لم ينطقن بها، لكن نظراتهن فضحت ما بداخلهن!
أبقوني في تلك الزنزانة حتى مغرب ذلك اليوم المشؤوم حيث أطل ذلك المترجم العميل (كرار) برأسه من فتحة صغيرة في باب الزنزانة وأخذ ينادي تارة (يقين) وتارة (أمنية)، وكان يضع على رأسه عصابة سوداء، فقال لي هل تعرفين معنى هذه العصابة على رأسي، فقلت له بسخرية، لم يحصل لي شرف التعرف إلى معانيها، فرد علي بحزم أنها (شدة الحمزة)، والحمزة الذي كان يتحدث عنه يقصد به عم الرسول، صلى الله عليه وسلم، وسيد الشهداء، فقلت له، لكن ما أعلمه أن الحمزة لم يكن عميلاً ولا خائناً ولا جاسوساً ولا يتفرج على الأميركان وهم ينتهكون عرض المسلمات أمام عينيه، فرد عليّ بلهجة غاضبة، أيتها الإرهابية سترين ما سيفعله الأميركان بك! فقلت له والخوف ينتابني من كلماته، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا! ثم غادر بعد ذلك، فهمست في أذني إحدى الفلوجيات قائلة لي، لا تخافي إنه يستفزك فقط، مثلما كان يفعل معنا، إنه خادم لهم وجاسوس وضيع فلا تبتئسي..
كان هدوءاً غريباً في تلك الزنزانة وما حولها حتى قطعت ذلك الهدوء أصوات موسيقى الروك، الذي بدأ مع آذان المغرب وأستمر حتى ساعات الصباح الأولى، كان صوتاً قبيحاً يصم الآذان، ترافقه ضحكات وقهقهات عالية، حتى أنني كنت أرفع من صوتي كثيراً حينما أريد التحدث مع إحدى المعتقلات اللواتي كن بجانبي، وكانت تلك كانت إحدى أساليب الحرب النفسية التي كانوا يستخدمونها معنا.. كانت إحدى المعتقلات الفلوجيات تنهار حينما تسمع هذه الأصوات الموسيقية المرعبة، فتأخذ في البكاء والعويل فيما نقوم أنا وزميلتها الأخرى بتهدئتها والدعاء لها
بعد ذلك حاولت معرفة مكان وجودي، حيث لم تكن المعتقلتين من الفلوجة يعرفن أين نحن، فقررت معرفة ذلك، حيث طلبت من مجندة أميركية، كانت تتولى أمر الزنزانة التي نحن فيها، أخذي إلى الحمام، فأخذتني بعد أن وضعت الكلبجات في يدي وقادتني بهدوء إلى حيث الحمام.. بعد خروجي من الحمام سألتها أن تعطيني سيجارة، وادّعيت بأنني مدمنة على السجائر، فأكدت لي أنه لا يسمح بالتدخين داخل الزنازين فرجوتها أن تسمح لي بتدخين سيجارة واحدة، وكان هدفي إطالة الحديث معها لمعرفة هوية المكان الذي كنت معتقلة فيه، فأخرجتني إلى حديقة خلفية، فوقفنا خلف تلك البناية التي كانت تحوي زنزانتنا، وأخرجت تلك المجندة إحدى يداي من الكلبجات ووضعت بدلاً منها يدها هي، خوفاً من محاولة هروب قد أقوم بها، وأعادت إغلاق الكلبجات بإحكام، ثم ناولتني سيجارة، بعد أن أشعلتها لي.. أخذ السعال يتصاعد عندي مع أول سحبة دخان من تلك السيكارة، فاكتشفت تلك المجندة حينها أنني لست مدخنة فراحت تضحك، فسألتني عن سبب اعتقالي..
أخذت أحدثها عن قصتي وعدم معرفتي بالسبب الذي جعلهم يعتقلونني، لم تكن لكنتها أميركية، فقد كانت الإنكليزية التي تتحدث بها لغة ثانوية على ما يبدو، سألتها عن جنسيتها الأصلية فقالت بأنها أميركية جنوبية واكتفت بذلك، لكنها أضافت أن عملها في الجيش الأميركي جاء من أجل الحصول على الجنسية، وأنه يُشترط عليها تأدية الخدمة في العراق حتى تنالها، حينها استغليت اندماجها واسترسالها في الحديث لأسالها عن هوية المكان الذي كنا فيه، فقالت لي أنها (مدينة صدام)، فاستغربت لأن ما حولي لا يوحي بأنها ما يسمونها (الثورة) فقد ظننت أنها تقصد (منطقة الثورة) والتي كانت تسمى (مدينة صدام) قبل فترة الاحتلال، فراحت تضحك وهي تصحح لي معلوماتي وفهمي المغلوط، مشيرة إلى أنها تقصد المنطقة الخضراء التي كان يقيم فيها الرئيس صدام حسين، فعرفت حينها أن معتقلي هو في المنطقة الخضراء!
وفي اليوم التالي وفي وقت مبكر
من ذلك الصباح نادت عليّ تلك المجندة ذات الأصل العراقي كما تدعي، ثم أدخلتني إلى غرفة أخرى كان فيها أميركياً، يحمل رتبة لا أعرف دلالاتها أو نوعها، فأخذ يوجه لي أسئلة جديدة، وكان الاتهام الرئيس لي هو، أن لديهم معلومات كشف عنها أحد أقاربي الذي يسكن مدينة سامراء، بحسب قولهم، يؤكد فيها إنني على اتصال بالمجاهدين، وإنني انتمي إلى تنظيم القاعدة، وأن زوجي أميراً لمجموعة جهادية تحاربهم، بحسب معلومات ذلك الشخص السامرائي، الذي رفض الضابط الأميركي الذي يحقق معي الكشف عن أسمه، قبل أن أكتشفه فيما بعد بنفسي، ثم فرش الضابط أمامي على المنضدة التي كانت أمامه خارطة لأحياء بغداد في جانب الكرخ طالباً مني الإشارة إلى الأحياء التي يتواجد فيها أعضاء تنظيم القاعدة، فأخذ في البداية يشير بأصبع يده إلى أحياء الدورة والعمل الشعبي والإسكان والغزالية وهو يقول، نحن نعلم أن هذه المناطق يتواجد فيها (الإرهاب)، لكننا نريد منك أن تحددي لنا الأحياء السرية الأخرى التي يتواجدون فيها
في البداية ضحكت من سؤاله هذا، واستفزني طلبه الذي يوحي وكأنني بالفعل على إطلاع بالعمل الجهادي، وأنني من يصدر أوامر القتال، بل أخذ يشعرني من خلال أسئلته الغريبة بأنني قيادية كبيرة في تنظيم واسع وكبير، وهو ما جعلني أضحك منهم، وعليهم بذات الوقت، لسذاجة تفكيرهم العقيم، وهم يظنون أن هذا الكم الهائل من العمليات المسلحة ضدهم، وهذا الكم الهائل من أعداد المجاهدين والمقاومين تقودهم امرأة!!
أخذت أتهكم في الإجابات واسخر منهم ومن اتهاماتهم المضحكة هذه، التي سرعان ما أضيفت لها أخرى وهي العمالة للمجاهدين والتستر عليهم، وما أحلاها من تهمة لو صدقت، ولكنني وللأسف الشديد حتى هذه التهمة كنت بريئة منها، وهو ما حزّ في نفسي في ذلك الوقت، فقلت للمحقق:
أنظر، لقد هاجمتم بلدنا، وغزوتم أرضنا، وسرقتم خيراتنا، وأهنتم رجالنا، ودنستم شرفنا، وانتهكتم أعراضنا، وقتلتم صغارنا وكبارنا، وتريدون منا أن لا نقاتلكم، والله أنني لا انتمي لأي جهة مسلحة، ولا لأي حزب أو تنظيم مسلح، سواء أكان قاعدة أو غيره، لكني وحالما سأخرج من هنا سأنتمي إلى أكثر الفصائل حرباً لكم، ما دامت تدافع عنا وتحمينا منكم.. وهنا أخذ المحقق يضحك بسخرية، محاولاً مد يده إلى كتفي، فأبعدتها عني، وقلت له، أنا مسلمة حرة ولن أسمح ليهودي أن يمد يده إليّ حتى لو اضطررت لقطعها!
وهنا شعر بالغضب، وجنّ جنونه، وضرب الطاولة الخشبية بقوة، وركل بقدمه كرسي كان فارغاً بجواره، وأخذ ينادي بصوت مرتفع على تلك المجندة الأميركية التي تدعي أنها (تميمية) طالباً منها أخذي وعزلي لوحدي ومنع الطعام والشراب عني!
اقتادتني تلك المتأمركة المتصهينة إلى مكان آخر وهي تتمتم قائلة، أنها البداية فقط، ولن نتركك حتى نمرغ أنفك بالتراب، كانت تتحدث بصيغة المجموع، بل كانت تحمل حقداً يفوق حقد المحتل نفسه على أبناء جلدتي!
توجهت بي تلك اليهودية الأصل والعربية الكلام، بعدما أساءت معاملتي كثيراً أثناء الطريق، إلى زنزانة صغيرة جداً، ضيقة ومظلمة، يخترقها ضوء خافت مصدره نافذة صغيرة تم إغلاقها بقطع إسمنتية تتخللها فتحات صغيرة ينساب منها جزء يسير من الضوء لينير بعض أجزاء ذلك القبر الدنيوي الذي وضعوني فيه، والذي كانوا يسمونه محجراً! وقطعوا عني الماء والطعام، إلى جانب منعي من الخروج إلى الحمام، فأصبح محجري هو مكان قضاء حاجتي..
شعرت بالرعب الشديد لكنني استعنت حينها بالله، وأخذت أكثر من الصلاة وكنت أتوضأ من خلال التيمم عن طريق المسح على الحائط باليدين، وأكثرت من الذكر والتسبيح وقراءة القرآن، لينقذني الله من بين أيديهم ويمنع عني شرهم..
أثناء ذلك لم استطع النوم ولو لساعة واحدة في تلك الليالي، نتيجة صوت موسيقى الروك الصاخبة المدوية التي كانت تهز أركان وجدران الزنازين طيلة الليل، إضافة إلى صرخات السيدة الفلوجية التي كانوا يكثرون من التحقيق معها، مثلما كانوا يكثرون من اغتصابها في تلك الليالي التي لن أنساها ما دمت حية، فكنت أميز صوت تلك الفلوجية المسكينة من بين كثير من الأصوات المتداخلة وهي تصرخ وتطلب النجدة والعون من هول ما تتعرض له من تعذيب واغتصاب، فترد إليها الجدران صدى صوتها دون أن يكون للحرة من مجيب!
وفي اليوم الثالث، ووسط كم الأحزان الذي كان بداخلي، جاءني جندي أميركي بزجاجة ماء بلاستيكية، وإناء فيه قليل من الشوربة، فضلاً عن قطعة بسكويت، ليخبرني، بعد أن رمى الطعام أمامي، بأنه يتوجب عليّ الاستعداد لأنه سيتم نقلي إلى سجون وزارة الداخلية العراقية!
حينها أدركت أن أيام عصبية تنتظرني، وأن القادم من الأيام سيكون أكثر سوءاً، وأن القدر يخبئ لي ما سيشيب لوقعه الولدان، وأن المعتصم الذي كنت أنتظر أن يلبي نداء صرختي لن يأتي..
حينها فقط أدركت أن المعتصم قد مات!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق