الجمعة، 15 يونيو 2012

(عصر الجواري) قصة مزيد وبصبص



 
كان المجون بوجه عام من ملامح العهد العباسي لسبب دخول غير العرب في الإسلام واختلاط الأجناس من الشرق والغرب في بغداد والبصرة والكوفة . وهناك من أطلق على هذا العصر مسمى(عصر الجواري) ومن ضمن ما تواتر عن مجون ذلك العصر ما حكى العلامة داود الضرير الانطاكي في مؤلفه (تزيين الأسواق في أخبار العشاق) .
فعن بعض أخبار العشاق البخلاء حكى عن شخص إسمه (مزيد)وكنيته أبو إسحاق الذي كان يضرب به المثل في البخل . وكان مع ذلك يعشق جارية يقال لها (بصيص) وهي جارية إبن نفيس التي يقال عنها أنها كانت أعجوبة زمانها في الحسن والجمال ورشاقة القوام والرقص والصوت الرخيم وموهبة الغناء فكان العشاق وأهل المجون في عصرها يتمنى أحدهم أن يراها ويجلس في مجلسها ولو كان ثمن ذلك خروج روحه بعدها …..

وحدث مرة أن كانت في مجلس سيدها ابن النفيس تنادمه مع أصدقائه وندمائه فجاءت سيرة (مزيد) وتحدثوا عن بخله الشديد الذي أصبح مضرب الأمثال .. فأخذ بالجارية بصيص الغرور وقالت لهم بلهجة المتحدي الواثق من نفسه:
أنا آخذ لكم منه درهما.فقال لها مولاها إبن نفيس :
إن أفلحتي في ذلك أعتقتك وألبستك كسوة موشاة بخيوط الذهب وأولمت لك وليمة كبرى .فقالت له بصيص:
على شرط أن ترفع الغيرة علي وتتركني أتلف له أعصابه حتى يلين ويعطيني الدرهم.فقال لها إبن نفيس:
- لو رفع لك رجليك ما غرت عليك وما اعترضت .وتعاقدوا أمام الجلساء والندماء على هذه الشروط ثم أرسلوا صديقا له إسمه (إبن مصعب) ليأتي به فخرج يبحث عنه حتى عثر عليه في المسجد فقال له:
- يا أبا إسحاق .. أما تحب أن ترى بصيص جارية إبن نفيس ؟؟
فأجابه مـزيد:
- إمرأتي طالق إن لم يكن الله ساخطا عليّ فيها وإن لم أكن أسأله أن يرينيها منذ سنة فما يفعل.فقال له إبن مصعب:
ابشر ؛ فقد تحققت أمنيتك واستجاب الله دعوتك فإذا صليت العصر فقابلني خارج المسجد لنذهب إليها في مجلس مولاها ابن نفيس.وفي الموعد المحدد أخذه إبن مصعب وذهب به إلى مجلس إبن نفيس حسب الاتفاق وجلس مع الندماء وتسامروا وشربوا وأكلوا وهو يأكل ويشرب معهم على نفقتهم ثم افتلعوا أنهم سكروا فتناوموا . فجاءت الجارية بصيص في أبهى زينتها تحمل عودها فجلست إلى جوار مزيد وقالت له:
- يا ابا إسحق ، ألا تشتهي أن أغني لك ؟؟ فأبتلع ريقه وأجابها بالإيجاب وهو لا يصدق نفسه .. فأصلحت الأوتار ثم غنت له:
لقد حثوا الجمال ليهربوا منا فلم ينلوا
 
فطرب مزيد وصفق بيديه وقدميه وقال لها:
- إمرأتي طالق إن لم تكوني تعلمين ما في اللوح المحفوظ .فعاودت بصيص الغناء ثم سكتت فترة وقالت له:
يا أبا إسحاق ، ألا تشتهي أن تقوم فتجلس إلى جانبي وتقرصني قرصات فأتضاحك وأتشخلع لك وأغنيك:

قالت وأبثثتها وجدي فبحت به ….
قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها
غطى هواك وما ألقى على بصري


فابتهج مزيد وقال لها:
- إمرأتي طالق إن لم تكوني تعلمين ما في الأرحام وما تكسب الأنفس غدا وبأي أرض تموت .فغنت له بصيص الأبيات التي ذكرتها ثم قالت له وهي ملتصقة به:
هل لك في أن تقبلني قبلة شوق البين ثم أغني لك ؟؟؟ ففعل … فغنت له:

أنا ابصرت بالليل …… غلاما حسن الدل
كغصن البان قد …… مسقيا من الطل

فتمايل مزيد طربا وسجد فقبل قدميها وقال لها:





أنت نبية مرسلة .ثم قبلها فغنت له أبياتا أخرى وهي خلال كل هذا تزداد التصاقا به وترتمي بجسدها عليه وتتدلع وتدعي عشقها له وولعها به ثم قالت:
- يا أبا إسحاق ، أرأيت أسوأ من هؤلاء الرجال المخمورين النائمين في طرف المجلس ؟؟ يدعونك ويخرجوني إليك ولا يشترون ريحانا بدرهم ؟؟؟ …… يا أبا إسحاق ، هيا أعطنى درهما أشتري به ريحانا.قيل فوثب أبو إسحاق من مجلسه كأنه قد لدغته عقرب حتى وقف على قدميه وصاح:
- وا حــرباه !! يا زانية … أخطأت أستك الحفرة وانقطع والله عنك الوحي الذي كان يوحى إليك .
ثم خرج مهرولا كأنه يهرب من ثعابين فضج المجلس بالضحك وكان ذلك أكثر ما انشغلوا به من فكاهة وتعليق بقية ليلتهم تلك.

ليست هناك تعليقات: