الأربعاء، 25 يوليو 2012

بنت السلطان الحكيمة




يروي عبدالكريم الجهيمان في كتابه (أساطير شعبية من قلب الجزيرة العربية، ج 2 ص 11) حكاية بنت السلطان الصامتة، وهي حكاية عن سلطان كان له بنت أثيرة إلى نفسه ويحبها حباً عميقاً، ولكن البنت حينما كبرت صارت لا تتكلم لا عجزاً عن الكلام، وإنما عزوفاً عنه ورغبة بالصمت، ولا تتكلم إذا تكلمت إلا بالحكمة وفصل الخطاب.

وحينما صارت في سن الزواج راح أبوها يتطلع لتزويجها ولذا أعلن في البلد أن من استطاع أن يجعل البنت تتكلم فهذا هو مهرها وستكون من نصيبه كزوجة له. أما من حاول ولم يفلح فإن مصيره القتل، وراح شباب البلدة يحاولون متطلعين لمجد مصاهرة السلطان، غير أن المحاولات كلها كانت تبوء بالفشل وجرى قتل المحاولين الفاشلين واحداً تلو الآخر حتى جاء شاب أعلن رغبته في أن يجرب حظه ويواجه نصيبه، وكان من عادة السلطان أن يدخل طالب الزواج على الفتاة في غرفتها ومعه عبد يرقب الوضع ويبلغ السلطان عند الصباح إن كانت الأميرة قد تكلمت أم لا، ولحظتها يتم قطع رأس الخاطب المخفق.

وفي حال الشاب الأخير فإنه دخل مع العبد كالعادة، ومر عليه شطر من الليل وهو يحاول جر الأميرة إلى الكلام من دون فائدة، فلما يئس وظن بنفسه الهلاك التفت إلى العبد وقال له، ما رأيك في أن تحدثني وتسليني في باقي ساعاتي من الحياة فأنا هالك لا محالة، فقال العبد ليس عندي ما أحدثك به، وهنا قال الشاب أنا سأحدثك إذن، وراح يقص عليه قصة نجار ماهر خطرت له خاطرة في أن يصنع تمثالاً تتمثل فيه فتاة شابة، وعمل على فكرته بحماس ونهم فلما فرغ من صناعة التمثال نظر إليه فرأه آية في الجمال والروعة، وأخذه العجب من تمثاله، وأراد أن يمتحن مدى صدق تصوره عن روعة تمثاله فعرضه علِى صديق له صائغ، ولما رأه الصائغ هاله ما رأى من جمال باهر، وعرض أن يعمل للتمثال مجوهرات وحلية تزينه، وهذا زاد من جمال الصورة وروعتها، وكان للرجلين صديق عابد متزهد فعرضا عليه التمثال بزينته وكماله، فرأى ما لم يره من قبل من الجمال والبهاء، وعرض على صاحبيه أن يدعو الله بأن يهب الحياة لهذا الكائن الباهر، وهذا ما حدث حيث نفخ الله الروح في التمثال وصار فتاة حية باهرة الحسن والطلعة، وهنا دخل الثلاثة في مجادلة بينهم إذ كل واحد يرغب بالفتاة زوجة له، وبدأ كل واحد يذكر وجه أحقيته فيها فقال المثّال أنا أحق بها لأنه لولا صناعتي لها لما صارت، وقال الصائغ أنا الذي حلّيتها وجملتها بمصاغاتي التي جعلتها على هذا الجمال، وقال العابد أنا الذي بدعواتي صارت فيها الحياة.

وهنا توجه الشاب المغامر إلى العبد وسأله: ماذا تقول أنت، من الأحق بالبنت..؟. فقال العبد لا أدري فكل واحد منهم له حق فيها، وهنا تفاجأ الاثنان بالأميرة تتحرك وتفتح فمها لتقول إن البنت من نصيب العابد فلولا دعوته لبقيت قطعة من خشب جامد.

في هذه اللحظة أخذ العبد سيفه وخرج، وفي الصباح كان السلطان قد هيأ المشهد لشنق الشاب المغامر كالعادة غير أن العبد فاجأ سيده بالخبر العجيب بأن البنت قد نطقت، ولم يصدق السلطان كلام العبد، وقرر أن يؤجل الأمر لليلة أخرى من باب التأكد، وأسند المهمة هذه المرة إلى ابنه شقيق البنت، وهكذا وجد الشاب المغامر نفسه في موقف متكرر يماثل ليلته الماضية، فالأميرة لا تتكلم وهو جالس يائس ومحتار، وجهه في وجه الأمير أخيها، وهنا عرض على الأمير أن يحادثه ويسلي ساعاته الأخيرة غير أن الأمير قال له أنت وشأنك ورفض التحدث معه، فقال الشاب أنا أحدثك إذن، وراح يقص عليه قصة رجل له ثلاث بنات وولد ذكر، ومات الرجل وبقي الأربعة مع أمهم حتى كبروا وصار البنات في سن الزواج غير أن لا أزواج في الأفق مما جعل الجميع في حال قلق وهم، وصمم الولد على تزويج اخواته من أي كائن يطلبهن للزواج، وفي يوم من الأيام تقدم ذئب من الذئاب للزواج من الكبرى فوافق أهلها ووافقت معهم، ولما صار الذئب صهراً لهم جلب إليهم زوجين آخرين أحدهما نسر والآخر حوت، وعاش البنات مع أزواجهن في خير وهناء، حتى جاء يوم ذهب فيه الولد مع أمه لزيارة أرحامهم في مواطنهم، وفرح الجميع بهذا التلاقي، ولم يكن لدى الحوت ما يقدمه لضيفه سوى صندوق صاده الحوت في البحر ولا يدري ما فيه وأعطاه الحوت لرحيمه وأوصاه ألا يفتحه إلا في مكان مغلق خشية أن يكون ما في داخله شيء يطير فيفر حينئذ إذ لا يعلم أحد ما في جوف الصندوق، غير أن الرجل لم يستطع أن يكبح رغبته في معرفة ما في الصندوق، وفتحه وهو يسير في الصحراء وهاله أن عموداً من الدخان طار إلى عنان السماء وترك له الصندوق خالياً، وهنا عاد الرجل إلى الحوت وقال له ما حدث، واجتمع الأصهار كلهم لمناقشة الموضوع، فقال النسر إن كان الذي طار ما زال في الجو فأنا آتي به، وقال الذئب إن كان قد نزل إلى البر فأنا آتي به، وتكفل الحوت بالبحر إن كان الذي طار قد عاد إلى البحر، وراح الثلاثة كل يجوب عالمه، حتى جاءهم الحوت ومعه فتاة آية في الجمال والبهاء، وكانت محبوسة في الصندوق، وطارت منه، وهنا هب الشاب فرحاً بها وطلبها لنفسه غير أن النسر والذئب والحوت دخلوا في المجادلة كل يريدها لنفسه، وادعى الرجل بأنه الأحق بها لأنها هديته من الحوت، غير أن الحوت قال للرجل لقد فرطت فيها بتسرعك، ولذا سقط حقك، ورد الذئب والنسر مطالبين بها لدور كل واحد منهما في محاصرتها جواً وبراً حتى ألجاها إلى البحر فصادها الحوت ولولا فعلهما لظلت بين الجو والبر بعيداً عن البحر، وهنا نظر الشاب المغامر إلى الأمير سائلاً إياه أن يفتي في هذه القضية ومن الأحق بأخذ فتاة الصندوق، ولم يجد الأمير جواباً، وهنا تحركت الأميرة الصامتة وقالت البنت من نصيب الحوت لأنه هو الذي اصطادها والصيد لصائده لا لمنفره. وهنا فعل الأمير ما فعله العبد من قبل حيث خرج وترك المكان، وفي الصباح أبلغ أباه بما حدث غير أن الأب لم يصدق أن ابنته تكلمت، وأصر أن يرى بنفسه، وهكذا ففي الليلة الثالثة وجد الشاب نفسه أمام السلطان متأبطاً سيفه ينظر إليه بعيون التربص والتوعد، ومر ليل الفتى ولم تنطق الأميرة، وتجرأ الشاب وطلب من السلطان الإذن له ليحدثه ويسلي ساعات اللقاء حتى يأتي الصباح وما فيه من موت صار محققاً، وشرع الفتى يحدث السلطان عن قصة رجل له ثلاثة أبناء وعنده ابنة أخيه التي صار راعياً لها بعد وفاة والدها، وكانت فتاة آية في الجمال والأخلاق، ولما صارت في سن الزواج لم يشأ الأب أن يزوجها لأي من أولاده إلا لمن يثبت أحقيته فيها أكثر من أخويه، وترك لهم حريتهم في السفر كي يبحثوا عن الأسباب التي بها يظفرون بابنة العم، وأعطى كل واحد منهم ألف دينار، ووصلوا إلى بلد غريب وهنا رأى الولد الكبير رجلاً يعرض بساطاً للبيع وقد غالى في سعره وطلب فيه ألف دينار بينما أسعار مثله لا تتجاوز درهمين، وتعجب الولد من ذلك حتى عرف أن للبساط ميزة تخصه وأنه بساط طيار، فراح واشتراه بما معه من مال، وكذا راح الولد الأوسط في اليوم التالي ورأى مرآة يطلب فيها صاحبها أكثر مما هو معهود في سعرها، ولما علم أن للمرآة ميزة هي أنها تكشف لصاحبها ما يتمنى أن يراه بمجرد أن يمسح عليها فتعكس له صورة المطلوب مهما بعدت به الديار، فاشتراها بألف دينار، وكان نصيب الولد الصغير أن وجد فنجال قهوة اشتراه بألف دينار لأن لهذا الفنجال خاصية هي أنه ما وضعت فيه شيئاً إلا وتحول إلى دواء لأي مرض كان.

وجلس الأولاد الثلاثة يتحادثون فيما اشتروه من غرائب، ويتساءلون إن كان أي منهم سيثير اهتمام ابنة عمه بهديته لها فيكسبها زوجة له، وبينما هم كذلك طرأ على أحدهم فكرة وقال لما لا ننظر في المرآة إلى ابنة عمنا ونتمتع بطلعة وجهها البهية لتؤنس غربتنا وتفرح قلوبنا، وهنا راح الولد الأوسط وجلا سطح المرآة بيده مرتين حتى تكشف له المنظر من بعيد وصار الجميع ينظرون إلى صورة ابنة عمهم، وما هالهم إلا أن رأوها تنقلب علِى جنبيها وتصرخ من ألم انتابها وكانت تحتضر وعلى وشك أن تموت، وأصابهم الرعب من هذا الذي يجري لابنة عمهم، وتذكروا البساط الطائر وما كان من الولد الكبير إلا أن فرد بساطه وطاروا إليها، ولما وصلوا أخذ الولد الصغير فنجال القهوة الذي معه ووضع فيه ماءً تحول إلى دواء سقاه البنت فشفيت في الحال.

وهنا جاءت المشكلة فالبنت لمن، حيث قال الولد الكبير إنه لولا بساطه لما وصلوا إلِى ابنة عمهم في الوقت المناسب لإنقاذها من الموت، وقال الأوسط إنه لولا مرآته لما علموا أصلاً بوضعها، وقال الصغير إنه لولا دواؤه لماتت البنت، وهنا توجه الشاب المغامر إلى السلطان وسأله أن يحكم في المسألة ومن يستحق البنت، ولكن السلطان لم يعرف جواباً للسؤال. وهنا تحركت البنت الصامتة لتقول إن الولد الصغير هو الأحق بها لأنه لولا فنجاله لما أفادت المرآة ولا البساط، وهذا أنهى الحكاية بزواج الشاب المغامر الذي على يده تكلمت البنت



ليست هناك تعليقات: