الاثنين، 30 أبريل 2012

الحصان الاعمى




قبل زمنٍ بعيد، بعيد قبل عصرنا هذا، بل وقبل عصر اجدادنا واجداد اجدادنا، كانت هناك مدينة سلافية تجارية غنية تدعى فينيتا، قائمة بجوار البحر. وكان يعيش في هذه المدينة تاجر يدعى يوسيدوم، كانت سفنه المحملة بالبضائع الثمينة تذرع البحار جيئةً وذهاباً.
كان يوسيدوم رجلاً غنياً جداً. فهناك في بيته كل ما بوسع المرء ان يتمناه. وكان هو وزوجته وأطفاله لا يتناولون الطعام إلا في أوانٍ ذهبية، ولا يرتدون إلا الفراء الثمين. وكانت في اسطبلاتهم خيول كثيرة من النوع الممتاز. ولم يكن في فينيتا جميعها حصان افضل واخف حركةً وأرشق من حصان يوسيدوم المسمى (سابق الريح). ولم يكن هناك من يجرؤ على ركوب (سابق الريح) غير سيده، الذي لا يركب أي حصانٍ آخر ابداً.
وقد حدث في احدى سفرات يوسيدوم انه كان راكباً حصانه المفضل عبر غابة كبيرة كثيفة. وفجأة، قفز ستة من اللصوص ذوي الاكتاف العريضة والهيأة الشريرة من خلف الشجيرات وهم مسلحون بالفؤوس والسكاكين.
ولو كان يوسيدوم يركب أي حصان آخر غير (سابق الريح) لما افلح في ان يرى مدينته فينيتا ثانيةً. فقد وثب الحصان إلى الأمام، والقى أرضاً بإثنين من اللصوص بصدره القوي، ثم داس ثالثاً تحت أقدامه وأنطلق بخفةٍ حاملاً يوسيدوم بعيداً.
انطلق اللصوص وراء يوسيدوم مندفعين على خيولهم. ولكن بالرغم من انها كانت خيولاً جيدة، إلا انها لا تقارن بسابق الريح.
وبعد نصف ساعةٍ وصل يوسيدوم مدينته المحبوبة فينيتا ممتطياً حصانه المتصبب عرقاً. فوثب نازلاً وراح يربت على رقبة الحصان المزبدة، وقطع على نفسه وعداً بكل وقار بأنه مهما حدث للحصان لن يبيعه او يسرحه بعيداً، ولن ينفصل عنه حتى في أرذل عمره، وسوف يعتني به حتى الموت، ويطعمه ثلاثة مكاييل من افضل الشوفان يومياً.
ولكن يوسيدوم، بسبب عجلته، لم يهتم اهتماماً كافياً بحصانه. فلم يترك السواس الكسالى الحيوان المنهك ليبرد، وأعطوه ماءً في الحال.
ومنذ ذلك الحين أخذ (سابق الريح) يتوجع، ويفقد ميزاته الطيبة، واخيراً اصبح اعمى.
حزن التاجر للمحنة التي ألمت به، وحافظ على وعده بإخلاص لمدة ستة اشهر تقريباً. فكان الحصان يتلقى العناية الجيدة، واحتفظ بمكانه القديم في الاسطبلات، وكان السوّاس يقدمون له يومياً ثلاثة مكاييل من الشوفان.
ثم اشترى التاجر لنفسه حصاناً آخر، وبعد ستة اشهر قرر ان من الحماقة الاستمرار في تقديم ثلاثة مكاييل من الشوفان لحصانٍ أعمى لم يعد نافعاً في شيء. وهكذا امر بتخفيض الكمية اولاً إلى مكيالين من الشوفان، وبعد ستة اشهر اخرى، إلى مكيالٍ واحد. وفي الاخير بدا للتاجر ان هذه الكمية كبيرة جداً، وجعل السوّاس يخرجون (سابق الريح) من البوابات وبذلك فلن يبقى الحصان يشغل مكاناً في الاسطبلات لم يعد له حق فيه.
لم يكن بمقدور (سابق الريح) المسكين ان يفهم ما كانوا يفعلون به، ولإنه لم يكن قادراً على رؤية وجهته، فقد قضى ساعات كثيرة واقفاً فقط في مكانٍ واحد، حتى دفعه الجوع إلى البحث عن طعامٍ له. وراح الحصان الاعمى يشق طريقه بعناءٍ، مصطدماً بركن بيتٍ تارةٍ او بسياجٍ تارة اخرى.
ومن الجدير بالذكر ان السكان في فينيتا، كما في جميع المدن السلافية القديمة الاخرى، كانوا يتخذون القرارات في القضايا المهمة بينهم في اجتماعٍ بالساحة الرئيسة. وكان مجلس المواطنين هذا، الذي يدعى (فيش)، هو الذي يبتّ في الشؤون الخطرة في المدينة، فينعقد للحكم ويصدر القرار. وكان هناك بمركز مدينة فينيتا، في الساحة حيث كان (الفيش) يجتمع، جرس كبير معلق يستدعي المواطنين إلى حضور المجلس، وكان بوسع كل من يعتبر نفسه مظلوماً ان يقرع الجرس ويطلب الحكم او الحماية من مجلس (الفيش).
عندما كان الحصان الاعمى الجائع يتسكع هنا وهناك في الساحة، دخل من بين الاعمدة التي كانت تسند الجرس، وشد بأسنانه حبل الجرس، أملاً في الحصول على شيءٍ من التبن.
فاجتذب صوت الجرس حشود الناس، الذين راحوا يتراكضون إلى الساحة، متلهفين لرؤية هذا الذي يطلب الحكم والحماية بهذه العجلة.
واكتشف الناس سريعاً حقيقة الامر، وهو ان التاجر الثري يوسيدوم كان قد طرد الحصان الاعمى الذي سبق ان انقذ حياته، فقرروا جميعاً ان للحصان (سابق الريح) كل الحق في قرع الجرس.
وطلبوا جلب التاجر الناكر للجميل إلى الساحة، واصدروا، بالرغم من احتجاجاته، امراً بان يعتني بالحصان كما كان يفعل في عز ايام الحصان، وان يظل يطعم (سابق الريح) حتى موته. وعينوا رجلاً معيناً ليتأكد من اطاعة حكمهم هذا. وقد نقشت كلمات المجلس هذه على صخرةٍ نصبت في ساحة (الفيش) لإحياء ذكرى ذلك الحدث.


ليست هناك تعليقات: